ادعمنا

هيكل الفرصة السياسية - Political Opportunity Structure

تعد ظاهرة التمرد والاحتجاج من أهم الظواهر الاجتماعية التي حظت باهتمام الفلاسفة والمفكرين السياسيين على مر العصور، فالأصل في الأنظمة السياسية أنها تنشأ عن إرادة شعبية للعمل من أجل تحقيق صالحها العام، وأن المواطنين يتنازلون لها طواعية عن جزء من حريتهم بغرض الحصول على مكاسب تتعلق بالحفاظ على حياتهم وأمنهم، إلا أن استبداد النخب وتعمد الحكام للإخلال بشرط هذا العقد الاجتماعي، قد يدفع في كثير من الأحيان بالشعب إلى التمرد، لكنهم في أحيان أخرى قد يؤثرون التمسك بقدرة النظام على تحقيق الضبط القانوني على الحرية والمشاركة السياسية، وهي الإشكالية التي طالما شغلت بال الباحثين في العلوم السياسية والاجتماعية على السواء، والتي عبر عنها الباحث الأمريكي تيد روبرت غير Ted Robert Gurr في دراسته المعنونة بـ"لماذا يتمرد البشر"، والتي سعى خلالها لدراسة أسباب نزوع المجتمعات إلى العنف تجاه أنظمتهم السياسية في بعض اللحظات التاريخية. 

وبالرغم من حالة التطور والانتقال بين المنظورات والاقترابات النظرية التي شهدها حقل النظم السياسية المقارنة، إلا أن ظاهرة الاحتجاج ظلت محل تساؤل وبحث مستمرين؛ ففي خمسينات القرن الماضي، ساد الاتجاه النظري التقليدي الذي يأخذ بمبدأ "أولوية الدولة" State Centric أو ما يطلق عليه بـ"الدولنة" Statism، والذي ينظر إلى الدولة باعتبارها الفاعل الأساسي في العملية السياسية، والسلطة العليا في المجتمع، التي تملك القدرة على التفكير العقلاني للقيام بوظائف توزيع القيم والموارد، وتنظيم العلاقات بين القوى داخل المجتمع، ومن هنا سيادة مفاهيم الدولة الوصية والدولة المهيمنة ونموذج الدولة الريعية. ومن ثم، فإن أنصار هذا الاتجاه اعتبروا أن التمرد من قبل الشعب على الدولة إنما هو "فعل غير عقلاني"، فظهرت نظرية "القطيع" لوصف السلوك الشعبي والجماهيري في لحظات الخروج على النظام الحاكم، ونظرية "العقل الجمعي" عند إيميل دوركايم David Emile Durkheim، والتي تشير إلى أن اجتماع الأفراد معًا يؤدي إلى خلق كيان جديد يختلف في صفاته عن صفات أفراده، بحيث يمكنه أن يتخذ موقفًا موحدًا عنيفًا وغير منطقي في كثير من الأحيان حيال بعض المواقف، وكذلك نظرية "الحرمان النسبي" التي لا تتعاطف مع الفعل الاحتجاجي وتعتبره فعلًا غير عقلاني، إلى جانب "النظريات التنموية" التي رأت فيه تعطيلًا لمسيرات الدول في تحقيق التنمية، لما ينتج عنه من إضرار بالاقتصاد الوطني، علاوة على قدرة النظام السياسي نفسه على التكيف مع الأوضاع الجديدة باتباع سياسات مراوغة من أجل الاستمرار، ومن هنا يمكن ملاحظة ظهور مفهوم "الثورة المضادة". 

وفي المقابل، ظهر اتجاه آخر يأخذ بـ"أولوية المجتمع" Society Centric والذي ينطلق من فرضية أسبقية المجتمع على الدولة، فالمجتمع هو الأصل، والدولة تمثيل له، وغير مستقلة عنه، بل هي منوطة بالنيابة عنه للقيام بعدد من الوظائف السياسية والاقتصادية والسياسية، فإذا ما فشلت في أداء هذه المهام، وشرعت حكومتها في التسلط والاستبداد، فإنه من حق الشعب سحب هذه الوكالة، والمطالبة بإسقاطها. ومن هنا، تبرر نظرية "تعبئة الموارد" فعل التمرد باعتباره رد فعل لحالة التناقض التي تظهر داخل النظام السياسي وعجزه عن الوفاء بالمطالب المادية للجماهير، مما يولد لديهم الغضب والسخط، ويخلق لديهم الحافز للتمرد والعنف، أي أن الحركات الاجتماعية فواعل راشدة تسعى لتحقيق المصالح والمطالب الجماعية.

وفي إطار حالة المراجعة النظرية والمنهجية التي شهدها الحقل، خاصة عقب التطورات التي ظهرت في البيئة السياسية الدولية والتي أدرك خلالها الباحثون عجز الاقترابات الأحادية عن تقديم تفسيرات أقرب إلى الشمولية، استدعى ذلك ضرورة صياغة نموذج جديد من شأنه الأخذ في الاعتبار حالة التفاعل المستمرة بين الدولة من جانب والقوى المجتمعية من جانب آخر، وهو ما كان على يد جول مجدال Joel S. Migdal في كتابه "الدولة في المجتمع"، والذي عمد فيه إلى طرح عدد من التساؤلات الكبرى من قبيل: ما هي طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع؟ ومتى وكيف أصبحت الدولة قادرة على تأسيس سلطة سياسية قوية قادرة على الاستئثار بوظيفة الضبط الاجتماعي داخل المجتمع؟ وكيف تؤثر أنماط النظم السياسية سواء ديمقراطية أو سلطوية على التحكم في المجتمع وسلوك أفراده؟ وما هي طبيعة الصراع بين الدولة والمنظمات الاجتماعية الأخرى؟ وقد طرح مجدال عدد من المقولات للإجابة على تساؤلاته هذه، لعل أهمها التأكيد على أن الدولة ليست عدو للمجتمع، بل هي طرف ضمن أطراف أخرى تتنافس جميعها من أجل السيطرة والتحكم الاجتماعي، وبالتالي فهي تسعى إلى توطيد سلطتها وهيمنتها من خلال حشد الطاقات البشرية والتعبئة الجماهيرية وإدارة التنويعات الاجتماعية، مما يجعل من مفهوم "الشرعية" أحد المرتكزات الرئيسية للعملية السياسية. 

وقد طرح بعض الباحثين مفهوم "هيكل الفرص السياسية" Structure of Political Opportunities باعتباره مفهوم وثيق الصلة بالشرعية، فإن الدولة في إطار علاقتها مع القوى المجتمعية المختلفة تسعى إلى احتوائها وتحقيق مصالحها، بما يضمن لها الحصول على دعمهم وتأييدهم، وهو ما يسمح لهذه القوى بممارسة المزيد من الضغط لتحقيق أهدافها والوصول لمطالبها، وقد استطاع هذا المفهوم تفسير لماذا يتمرد الشعوب في لحظات تاريخية معينة ولا يتمرد في غيرها؟ فهو يفترض أن الجماهير والحركات الاحتجاجية تتحين ما يسمى "الفرصة السياسية"، والتي تتمثل في الظروف والعوامل الداخلية والخارجية التي تدعم موقفها وتؤهلها لفرض مطالبها، هذه الفرصة ما هي إلا لحظة انفتاح من الحركة الاجتماعية يقابلها ضعف وتحديات للنظام السياسي. 

اكتسب هذا المفهوم رواجًا كبيرًا على المستويين العالمي والعربي عقب بروز الحركات الاجتماعية التي أضحت تمارس دورًا في التأثير على نشاط الدول وسلوكهم، بل وقدرتها على التجديد وإنتاج وسائل للمقاومة تتغير طبقًا لطبيعة النظام وقدراته القمعية، علاوة على موجة الثورات التي اجتاحت العالم العربي في نهاية العقد الأول من القرن الحالي، لما امتلكه من قدرة تفسيرية لظهور هذه التغيرات بربطها ببيئتها الاجتماعية والسياسية، فالبيئة والعوامل الخارجية إما أن تعزز من قيام هذه الحركات أو تقضي عليها في مهدها، لذا ظهرت العديد من الأبحاث في السنوات الأخيرة تسعى إلى إعادة النظر في هذا المفهوم والتأصيل له، ومحاولة تطويعه وتطبيقه على الحالات الدولية المختلفة، وبخاصة العربية، وهو ما يفرض تتبع هذه المحاولات والوقوف على مدى نجاحها في تناوله من عدمه، لاسيما أنه يعد مفهومًا حديثًا نسبيًا، خاصة في نطاق الدراسات العربية.

 

الدواعي النظرية لظهور المفهوم ومراحل تطوره:

ظهر مفهوم "هيكل الفرص السياسية" كنتاج لحالة الجدل النظري السائد في حقل النظم المقارنة حول دور الجماعات والقوى السياسية والمجتمعية المختلفة وتفاعلها مع سياقاتها المحيطة، سواء المحلية أو الدولية، فمع بداية السبعينيات من القرن الماضي وبدء الموجة الثالثة للتحول الديمقراطي، طرح بيتر إيزنجر Peter Eisinger مفهوم "بنية الفرصة السياسية" كأداة لتحليل وتفسير الحركات الاحتجاجية، ثم تناوله من بعده عدد من الباحثين أمثال شارلز تيلي Charles Tilly ودوج ماك آدم Doug MC Adam، حتى صار في التسعينيات الأداة الأكثر انتشارًا وتداولًا لتفسير حالات التحول التي تشهدها النظم السياسية في ذلك الوقت، وبخاصة دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي، وقد ازدادت أهميته عقب تصاعد دور الحركات الاحتجاجية في الحراك الثوري وحالات التغير الراديكالي في عدد من الدول، خاصة عقب فشل النظريات السابقة كالحرمان النسبي وتعبئة الموارد والتأطير والنظرية الوظيفية في تقديم تفسيرات كافية لبروز نمط العمل الجماعي، لإغفالها دور البنية الاجتماعية.

ويمكن تتبع بذور نشأة هذا المفهوم في كتابات العمل الجماعي Collective Action ودراسة أبعاده وآلياته وتفاعله مع البيئة المحيطة به، ففي منتصف الستينيات، عمد الاقتصادي الأمريكي مانكور أولسون Mancur Olson في كتابه "منطق العمل الجماعي" إلى دراسة سمات هذا النوع من العمل وكيف يمكن تنفيذه وما هي الأسباب التي تعوق تحقيق أهدافه مطبقًا نظرية آدم سميث Adam Smith المعروفة بـ"اليد الخفية"، وقد أكد على أن تخلي الدولة عن دورها الضابط لإدارة المنافع العامة هو ما يودي بالكثير من الشعوب إلى البحث عن منافذ أخرى، وأن الأفراد في نطاق عملهم الجماعي لا يلبثون أن يقومون بحسابات التكلفة والعائد، إلا أنه في المقابل، يلعب العامل النفسي دورًا يكاد يتفوق على العامل الاقتصادي في بعض الحالات، خاصة تلك التي يتسم فيها النظام السياسي بالتسلط والقمع، بحيث تصير حينها المصلحة الجماعية الرغبة في تغيير الوضع القائم ذات أولوية مقارنة بالمصالح الذاتية، لذا فإن الغاية الرئيسية للعمل الجماعي تتركز حول مراجعة "عقد المواطنة" الضمني وما يشتمل عليه من حقوق والتزامات متبادلة بين الحكومة والمحكومين.

وتعود البدايات الأولى لظهور المفهوم إلى المدرسة الأمريكية ومحاولتها لتفسير حالات التغيير في الأنظمة السياسية الناجمة عن ضغط جماعات المطالب، بحيث سعى مايكل ليبسكي Michael Lipsky إلى القول بأن دور هذه الجماعات وقدرتها في إحداث أثر تحولي يتوقف بدرجة كبيرة على طبيعة النظام السياسي سواء كان انفتاحيًا أو منغلقًا، وأن سمات النظام تختلف من فترة لأخرى، هذا التغير الذي يجعله أكثر عرضة للاحتجاج والتمرد من الجماعات المعارضة، ويفرض عليه الاستجابة لمطالبها، تبعه في ذلك بيتر إيزنجر في كتابه "شروط السلوك الاحتجاجي في المدن الأمريكية" عام 1973م، بحيث أشار خلاله إلى وجود حالة من التباين في السلوك الاحتجاجي ضد الفقر والتفرقة العنصرية من مدينة لأخرى، وهو ما فسره باختلاف بنية الفرصة السياسية السائدة على المستوى المحلي وطبيعتها في كل منها، وهي المرة الأولى التي ظهر فيها المفهوم بشكل واضح. 

وفي عام 1987م، أكد شارلز تيلي عبر عدد من الدراسات على وجود علاقة بين درجة الانفتاح السياسي للنظام والنهج الذي تتبعه الدولة في ضمان حرية المشاركة السياسية وبين سلوك حركات المعارضة والسبل التي تتبعها للتكيف مع النظام، فمن خلال تطبيقه لهذه الفرضية على النظام البريطاني توصل إلى أن اتباع النظام لسياسات أكثر ديمقراطية ساهم في توجيه حركات المعارضة إلى الانخراط المؤسسي الرسمي عبر الأحزاب وجماعات المصالح بغرض التأثير والمشاركة في العملية السياسية.

وفي أواخر الثمانينات، عمد الباحثون الأوربيون إلى استدعاء هذا المفهوم وتطبيقه على عدد من النماذج الدولية "الغربية" تحت مسمى "هياكل التحالف" Alliance Structures، ليركزوا من خلاله على تحليل الأطر الهيكلية والمؤسسية للدول وتأثيرها على فاعلية الحركات الاجتماعية الجديدة New Social Movements وقدرتها على التعبئة، وقد خلصت التحليلات إلى أن "تباين الجماعات، سواء في الهيكل التنظيمي، أو في الحجم، أو في درجة الفعالية، إنما يعود إلى تباين الخصائص الهيكلية والمؤسسية المميزة للدول التي تنشأ فيها تلك الجماعات، وفي هذا السياق، طبق هانسبتر كريزي Hanspeter Kriesi مفهوم "الفرصة السياسية" على الحركات الاجتماعية الجديدة في فرنسا وسويسرا ألمانيا وهولندا، وقد تحدث عن هذا المفهوم باعتباره اقتراب تحليلي يتناول العلاقة بين الإطار الهيكلي للحركات وبين سياقها السياسي المحلي والدولي، وبين منظومة القيم المجتمعية السائدة. 

 ويتضح مما سبق، أن فشل النظريات السابقة في تبرير أسباب بروز ظاهرة الحركات الاجتماعية والتمرد الجماهيري ضد الأنظمة السياسية، وما هي المقومات التي تسهم في نجاحها من عدمه، هو ما دفع بالباحثين سواء الأمريكيين أو الأوروبيين إلى البحث عن إطار تحليلي جديد يمكن أن يسد الفراغ النظري لدراسة هذه المسألة، وبالرغم من التباين في بؤرة التركيز بينهما؛ ففي الوقت الذي اهتمت فيه المدرسة الأمريكية بالعملية السياسية وخصائصها، ذهبت المدرسة الأوروبية إلى القول بأولوية الإطار المؤسسي والهيكلي لما له من تأثير على سلوك الجماعات، إلا أنهما اتفقا في الإقرار بتأثير السياق السياسي لما يحمله من فرص متباينة على الجماعات الاحتجاجية من حيث تكوينها وأساليب عملها واستراتيجيات تحركها وقدراتها على التعبئة وحتى الخيارات المتاحة أمامها، وهو ما يجعل كل منها حالة فريدة ومتمايزة عن غيرها.

 

التعريف بمفهوم "هيكل الفرص السياسية":

يعد هيكل الفرص السياسية أحد المفاهيم الاجتماعية التي شهدت العديد من التعريفات، نظرًا لتعدد أبعاده ومقوماته، علاوة على التداخل أو "الامتداد المفاهيمي" الذي يجعل البعض يخلط بينه وبين مفاهيم أخرى كالعملية السياسية والحركات الاجتماعية وبنية القوة، وهو ما يتطلب ضرورة تتبع التعريفات الخاصة به، والتي يمكن تقسيمها إلى اتجاهين: 

يذكر ديفيد مير David S. Meyer  وديبرا مينكوف Debra C. Minkoff  بأنه "مجموعة العوامل التي تؤثر في اختيارات وفرص الأفراد في العمل الجمعي"، وهي عوامل غير سياسية بالضرورة، وإنما يدخل في نطاقها كافة العوامل والمحددات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وحتى العقيدية والقيمية، فكل ما يقع في نطاق البيئة المحيطة قد يؤثر على عمل الحركات الاجتماعية، كما عرفته دونتيلا Donatella بأنه "محصلة للتفاعل المستمر بين الجماعة والبيئة"، كما عرفه سيويل Sewell بأنه "خريطة معقدة تضم أبنية وعلاقات تتغير باستمرار، قد تمنح بعض الجماعات المزيد من الموارد لتمكينها، وتفرض على جماعات أخرى عراقيل تعوق حركتها، تلك المتغيرات تؤثر على الجماعات التي تعيد إنتاجها من خلال ما تمارسه من نشاط". 

على الجانب الآخر، ظهر اتجاه يربط بنية الفرص المحيطة بالسياق السياسي، بحيث عرفها سيدني تارو بأنها "الأبعاد المختلفة في البيئة السياسية التي تمنح دوافع للأفراد للمشاركة في العمل الجمعي من خلال التأثير على مدركاتهم عن العمل الجمعي وتوقعاتهم بالنجاح أو الفشل"، كما عرفها كيتشلت Kitchelt استنادًا إلى عواملها ومقوماتها بأنها "ترتيب محدد للموارد المتوفرة لدى الحركات الاحتجاجية، والشكل المؤسسي للدولة والمجتمع، والسوابق التاريخية للتعبئة في المجتمع، هذه العوامل التي تمكن الحركات من تنمية نفسها والتواجد في المجال العامل بشكل فعال"، في حين ذهب ماك كارثي وزالد كونها "تلك التغيرات التي تطرأ على النظام السياسي القائم، وتطال هياكله المؤسسية بما يخلق فرصًا للجماعات المناهضة للنظام بتشكيل تنظيم يعبر عن مطالبها فيما عرف بالتعبئة التنظيمية، لكن إذا ما تعرض هيكل الفرص للانكماش وتزايدت المعوقات الأمنية، قد يؤدي إلى إحجام القوى المعارضة عن الضغط على النظام القائم أو امتناعها عن تحدي النظام".

وعلى المنوال نفسه، سعت الكتابات العربية في إطار رصدها لأثر البيئة السياسية على الحركات الاحتجاجية سلبًا وإيجابًا إلى وضع تعريفات خاصة للمفهوم؛ بحيث يعرفه محمود عبد الحفيظ المهر بأنه "قدرة الحركة الاجتماعية على تعبئة مواردها واستغلال إمكانياتها من أجل التغيير الاجتماعي والسياسي، من خلال استغلال الظروف المجتمعية التي تتمكن من احتوائها واستغلالها لتحقيق أهدافها"، في حين تعرفه دراسة أخرى بأنه "كل سياق سياسي توجد بداخله جماعات، يحمل جملة من الفرص تؤثر على نحو معين في تكوينها، كما تحدد نطاق الخيارات المتاحة لها، فضلًا عن أساليب عملها واستراتيجيات تحركها، علاوة على فاعليتها وقدرتها على الاستمرار".  

ويمكن إبداء بعض الملاحظات بشأن التعريفات السابقة على النحو التالي: 

١- تختلف المفاهيم في النظر إلى طبيعة الفرص السياسية ومصدرها، بحيث تتراوح ما بين الفرص الرسمية الناتجة عن التغير في الهيكل المؤسسي للنظام السياسي، وبين ما يطلق عليه الفرص الاستطرادية التي تعمل على استيعاب كافة الخصائص غير المؤسسية، وفي مقدمتها البعد الثقافي. 

٢- اهتمت التعريفات السابقة ببيان رد فعل الحركات على التغيرات في السياق المحيط، واعتبار كونها تتسم بالرشادة لاستغلال الفرص، بينما أهملت كيفية الاستجابة وكيف يتم هذا الأمر في داخل الحركة، وكذلك الأسباب التي لا تجعل الحركات تنتهز الفرص المتوفرة للتغيير. 

٣- تعتبر هذه التعريفات أن قدرة الحركات الاجتماعية على الحشد دليل على استغلالها العقلاني للفرص، وعلى إيمان الجماهير بأهمية مطالبها وأهدافها، إلا أن الواقع في بعض الدول وبخاصة الدول النامية يشير إلى أن التعبئة تقوم في كثير من الأحيان على الإكراه أو المكافأة. 

٤- ركزت التعريفات السابقة على التغير في النظام السياسي والظروف المجتمعية، أي المتغيرات البيئية الداخلية فقط، في حين أهملت المتغيرات الخارجية التي تلعب دورًا ربما يكون أكثر أهمية في بعض الحالات لخلق الفرص ما يحفز على التمرد والاحتجاج. 

ويجدر الإشارة إلى أن مفهوم هيكل الفرص السياسية يختلف عن بعض المفاهيم الأخرى التي ارتبطت به، وفي مقدمتها مفهوم "الحركة الاجتماعية" والتي يعرفها تشارلز تيلي بأنها "تنظيمات شاملة مؤلفة من جماعات متنوعة المصالح، تضم طبقات وقطاعات مختلفة من المجتمع كالنقابات العمالية والمنظمات النسائية والطلاب وجماعات الضغط، ناتجة عن شعورها المشترك بغياب الديمقراطية في المجتمع والرغبة في إحداث تغيير"، إلى جانب مفهوم "بنية القوة" وهو أحد متغيرات مفهوم هيكل الفرص إلى جانب العملية السياسية، والذي يشير إلى توزيع القوى بين التنظيمات والمؤسسات السياسية سواء الرسمية أو الغير رسمية في المجتمع. 

 

المقولات الرئيسية للمفهوم: 

يستند مفهوم هيكل الفرص السياسية كأداة تحليلية لسلوك وفعالية الحركات الاجتماعية على عدد من المقولات التي يمكن إجمالها في الآتي: 

١- تسعى الحركات الاجتماعية وجماعات المطالب في سبيل الحصول على مطالبها إلى انتهاز الفرص المتاحة في المحيط السياسي والاقتصادي والاجتماعي، إلى جانب التأثير من جانبها تغيير سمات الهيكل النظامي القائم وتوجيهه في سبيل الاستجابة لها، من خلال توليد فرص جديدة سواء لنفسها أو لغيرها، في ضوء ما تمتلكه من مقومات وإمكانيات. 

٢- الفرص السياسية ليست ثابتة لجميع الحركات، وإنما تختلف من حركة لأخرى، بل ومن وقت لآخر للحركة الواحدة، نتيجة للتغير في خصائص العملية السياسية، وهو ما يدفع بالحركات إلى تعديل أساليبها واستراتيجياتها في سبيل تحقيق أهدافها، فقد تعتمد سبل العنف والتمرد، أو الإضراب والاحتجاج السلمي، أو أنها تتخذ إطارًا مؤسسيًا لتنظيم عملها. 

٣- الفرصة السياسية ليست شرطًا أساسيًا لظهور الحركات الاحتجاجية، وإنما قد يكون نتيجة لعملها ومساعيها في التغيير، ففي الكثير من الحالات تنشأ الحركة الاجتماعية في ظل نظام سياسي استبدادي يتسم بالانغلاق والميل إلى العنف، إلا أنها تتمكن من اتباع وسائل للالتفاف على ممارساته مما يتيح لها فرصة الضغط، وإدخال بعض التعديلات التي تسمح فيما بعد بإتاحة المزيد من الفرص. 

٤- يتسم هيكل الفرص بتأثيره المزدوج، فهو سبب ونتيجة في الوقت نفسه، بحيث قد يكون هذا التغير هو الدافع وراء ظهور الحركات الاجتماعية، في حين قد يأتي نتيجة لعلمها ومساعيها في الحشد والتعبئة والضغط على النخبة الحاكمة. 

٥- هناك علاقة وثيقة بين درجة انفتاحية النظام وتغير سبل ومنافذ مؤسسية أمام الحركات والجماعات المعارضة واتباعها سلوك سلمي في التعبير عن مطالبها والامتناع عن اللجوء إلى العنف والتمرد.

 

العناصر الرئيسية للمفهوم:

نلاحظ مما سبق أن مفهوم هيكل الفرص يعني أساسًا بتأثير النظام السياسي وتغيراته المؤسسية والقانونية على مسار الفعل الاحتجاجي، فهو يحلل العوامل التي من شأنها أن تجعل النظام أكثر انفتاحًا وتعرضًا للاحتجاج وتأثرًا به، ووفقًا لماك آدم، فإنه من الصعب تحديد كافة عناصر بنية الفرص السياسية بشكل مسبق، حيث أن أية تغيرات في طبيعة العملية السياسية يمكنها أن تسهم في تقويض سياسات النظام القمعية وتؤثر على استجابة السلطة للمطالب فهي تدخل في نطاق الفرص السياسية، وقد ظهرت في هذا الإطار عدة محاولات لتحديد عناصر هذا الهيكل، لعل أبرزها ما اقترحه كرايزي بتقسيم المفهوم لثلاثة عناصر هم: البنية الرسمية للدولة، الإجراءات غير الرسمية والاستراتيجيات السائدة التي تتبعها السلطة لمواجهة التحديات، ونمط توزيع السلطة في إطار النظام الحزبي. 

بينما اقترح كل من تارو وتيلي تقسيم هذه البنية إلى ستة عناصر: تعددية مراكز السلطة المستقلة داخل النظام، ودرجة انفتاحيته على الفاعلين الجدد، وعدم استقرار التحالفات السياسية، وتوفر حلفاء مؤثرين للمحتجين، وميل النظام إلى التعاطي مع حركات المطالب والاحتجاج، وأخيرًا، التغيرات الحاسمة داخل العناصر الخمسة السابقة. 

ويشير زياد منسون Ziad Munson إلى أن العلاقة بين الحركة الاجتماعية وبيئتها تتوقف على عدد من المحددات أو العناصر، والتي أجملها في: تراجع قوى الدولة وممارستها للعنف من أجل قمع القوى المعارضة، هيكل التحالف بين القوى الاحتجاجية لتوفير الدعم اللازم، مدى انفتاحية النظام وسماح الفاعلين الجدد بتوصيل مطالبهم إلى النخبة وصناع القرار، والانشقاقات والانقسامات داخل هياكل السلطة، مما يتيح للحركات فرصة الضغط والاستفادة من ضعف النظام وتوجيهه في سبيل مصالحها. 

ومن المحاولات السابقة، يمكن ملاحظة أن ثمة مجموعة من العوامل التي تسهم في بنية الفرصة السياسية المتاحة لدى الحركات الاجتماعية، والتي يمكن إجمالها في الآتي: 

١- طبيعة النظام السياسي: تتوقف بنية  الفرص السياسية على خصائص النظام السياسي وما يتسم به في علاقته مع القوى المجتمعية وجماعات المعارضة، وما إذا كان انفتاحيًا يسمح للفاعلين الجدد بالتعبير عن مطالبهم والمشاركة في العملية السياسية، أم منغلقًا يفرض المزيد من القيود للحد من حركة هذه القوى وتأثيرها على الساحة السياسية، وقد استقر الباحثون على وجود عدد من المؤشرات التي يمكن من خلالها قياس درجة انفتاح النظم السياسية أهمها: 

أ- عدد الأحزاب السياسية والتنظيمات الاجتماعية وجماعات المطالب التي تشتمل عليها العملية السياسية، وقدرتها على التأثير والمشاركة. 

ب- استقرار مبدأ الفصل بين السلطات واستقلاليتها، وبخاصة السلطة التشريعية باعتبارها آلية التعبير عن الإرادة الشعبية، علاوة على دورها في مراقبة ومحاسبة السلطات التنفيذية. 

ج- شبكة العلاقات والتفاعلات وأشكال الوساطة بين الجماعات والحركات الاجتماعية التي تتشكل بينها بهدف الضغط على النظام  والوصول إلى مراكز صنع القرار.

د- مدى قابلية النظام لتعديل سياساته والاستجابة لمطالب القوى المجتمعية من خلال تضمينها في السياسات العامة للدولة، فتوافر الفرص السياسية لا قيمة له دون القدرة على التأثير من جانب الفاعلين السياسيين. 

٢- الثقافة السياسية السائدة: تمثل الثقافة السياسية بما تشتمل عليه من قيم ومعتقدات واتجاهات سياسية البيئة الجامعة لعمل المؤسسات السياسية في الدولة، كما أنها تلعب دور الموجه الرئيسي والخفي لسلوك الجماعات والأفراد، وبخاصة نظرتهم لأهمية الديمقراطية والمشاركة السياسية والموقف من الحاكم والثورة. 

٣- التفاعلات السياسية وهياكل التحالفات: ويتناول هذا الجانب كافة أنواع التفاعلات سواء التعاونية أو الصراعية، وتنقسم إلى مستويين: أحدهما داخلي والآخر خارجي، فعلى المستوى الداخلي يتعلق الأمر بعملية التفاعل والتنسيق بين عناصر النخبة الحاكمة ومراكز السلطة، وبين المؤسسات الرسمية والقوى والتنظيمات المجتمعية وما ينتح عنها من روابط سواء كانت مؤقتة أم ثابتة، وتأثير ذلك على عملية التعبئة الاجتماعية وإعاقة الحشد تجاه المطالب من أجل التأثير، ويتم التفرقة في هذا الإطار بين نمطين من الفرص الناتجة عن التحالفات الداخلية وهي: أولًا الفرص الجزئية أو المحدودة، وهي التي تنتج عن حالات الانقسام في النظام السياسي خاصة في أوقات العملية الانتخابية لما تهده من تنافس بين عناصر النخبة السياسية، وهو ما تسعى المعارضة إلى استغلاله لصالحها، وثانيًا الفرص الكبرى والتي ترتبط بانقسام حاد في النظام الحاكم مما يتيح فرصة إسقاط النظام برمته.

بينما يتعلق المستوى الخارجي بالتحالفات الدولية والإقليمية لدعم نشاط الحركات الاحتجاجية والضغط على النظام في سبيل إتاحة مزيد من الفرص للحشد والتعبية، وللدفع به في سبيل الاستجابة لمطالبها، أو على العكس، قد يأتي هذا التحالف في إطار معارض لنشاطها. 

٤- الهيكل الدولي الخارجي: يتعلق هذا البعد بالإطار الخارجي المتجاوز للسياق الوطني، فهو لا يتناول مجرد الإطار الهيكلي والقانوني للدولة، ولا خريطة التنظيمات المجتمعية وأعدادها وشبكة التفاعلات فيما بينها، وإنما تعني بالتغيرات في السياق الإقليمي والدولي الأوسع، والتي تؤثر بدورها على النظام السياسي فتمنح الجماعات فرصًا جديدة للتأثير، كالعولمة الاقتصادية والأزمات المالية الدولية والحروب التغير في هيكل النظام الدولي، بل وحتى توجهات السياسية الخارجية للدولة في علاقاتها مع الدول الأخرى، فهيكل الفرص ليس محصلة حتمية للسياق الداخلي، إنما هو نقطة تتلاقي فيها كافة التأثيرات على مختلف الأصعدة والمستويات سواء الداخلية للجماعة أو المحلية أو الأقليمية أو الدولية. 

وقد اعتمدت بعض الدراسات مفهوم "العدوى الدولية" International Infections للإشارة إلى تأثر الدول بالمستجدات والتداعيات على الساحة الدولية، خاصة في ظل انتشار العولمة كسمة رئيسية للمجتمع الدولي الحديث، بما يسهل من عملية التأثير والتأثر بين أطرافه، بحيث تستطيع الأحداث الوطنية في دولة ما أن تسهم في إعادة تشكيل الداخل في دولة أخرى، وتركز بعض الدراسات في تناولها لهذه الظاهرة على تأثر الدول بالأزمات الاقتصادية في بعضها البعض، علاوة على حركات الاحتجاج والتمر التي ما أن يتردد أصداؤها عبر الحدود، حتى تنكشف للشعوب الدولية أليات الضغط على الحكومات، وتسمح بسهولة عملية التعبئة، ويدلل الكثير منها بظاهرة ثورات الربيع العربي، التي انتشرت بصورة واسعة بين النظم السلطوية في العالم العربي. 

 

أنماط الفرص السياسية في إطار هيكل الفرص: 

سعت الدراسات في إطار تعرضها للفرص السياسية إلى محاولة تصنيفها وبيان أنواعها المختلفة وفقًا لمعايير متعددة تتراوح ما بين أطوار الحركة ذاتها وما يرتبط بها من فرص، وبين معيار التغير في النظام السياسي، ومعيار المؤسسية والفترة الزمنية وحتى معيار مساحة الفرصة نفسها وما قد ينتج عنها من تأثير، ومن أبرز هذه التصنيفات: 

- تصنيف الفرص وفق معيار مراحل العمل الاجتماعي: ويشمل هذا المعيار تصنيفين للفرص: أولهما تصنيف ثنائي يتعلق بالنشأة والعمل، ففي البداية تعتمد الحركات الاحتجاجية في نشأتها وظهورها على استغلال الفرص المتاحة في البيئة المحيطة سواء سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وهي تتسم بصورة كبيرة بالعفوية والتلقائية، بحيث لا تمتلك أجندة أو استراتيجيات عمل معينة في البداية، إلا أنها بعد فترة تتمكن الجماعة من التعبئة وتكوين قاعدة جماهيرية كما تكتسب قدر من الخبرة في ممارسة العمل الجماعي، وتتضح لها الرؤية في تحديد مطالبها وأهدافها بصورة أكثر دقة فتتحول من فرص النشأة إلى فرص ممارسة النشاط، وتكون خلالها قادرة على تحديد الفرص الأجدر بالاستغلال لتحقيق التأثير والضغط على النظام السياسي. 

وفي إطار المعيار ذاته، أشار البعض إلى وجود تصنيف ثلاثي آخر يحتوي على: فرص المدخلات والتي ترتبط أيضًا بمرحلة نشأة الحركات، بحيث يحتوي السياق المحيط على عدد من التحديات التي تعد بمثابة مدخلات تدفع لظهور الحركة ودفعها نحو النشأة والتأسيس، واستغلال هذه الفرص من أجل التعبئة والحشد، ولا تقتصر في هذه المرحلة المدخلات على معطيات النظام السياسي فقط، وإنما على الثقافة السياسية السائدة في المجتمع، ومواقف الجماهير السياسية، إلى جانب الوضع الاقتصادي والدولي، ثم فرص تطور الجماعة والتي تتعلق بمرحلة العمل الجماعي، والتي يتطور خلالها قدرة الحركة على استغلال الفرص وتطويعها في تحقيق أهدافها، فإذا ما اتسمت الفرص بالاستمرارية منذ مرحلة النشأة، فإنها تكون قادرة على التعامل معها بصورة أفضل، وبلورة أهدافها واستراتيجياتها وأدواتها على نحو أكثر وضوح، بينما في حالة تغير هذه الفرص، فإنها تتمكن كذلك من تعديلها وفق الوضع الجديد، وفي النهاية فرص المخرجات والنتائج، وهي المرحلة التي يتضح فيها نتائج هذا العمل سواء بالقمع وزيادة العنف أو بالتجاهل أو بالاستجابة وتحقيق التغيير، وفي هذه الحالة فإنها قد تتحول إلى فرصة جديدة تستغلها الحركة أو حتى الحركات الأخرى في المزيد من الضغط على النظام السياسي. 

- تصنيف الفرص وفق معيار التغير في النظام السياسي: ويتوقف هذا المعيار على افتراض أن أي تغير في النظام السياسي هو بمثابة فرصة متاحة للحركات الاجتماعية، ويصنف الفرص درجة هذا التغير إلى فرص محدودة تتعلق بالتغير البسيط في النظام كما هو الحال في مراحل الانتخابات وسيادة نمط التنافس والصراع بين أعضاء النخبة السياسية الحاكمة، بما يسمح للحركات الاحتجاجية بممارسة نوع من الضغط لتحقيق بعض المطالب، وذلك في مقابل التغييرات الكبرى التي تتيح مزيد من الفرص وهي تتعلق بالمراحل التي يتعرض خلالها النظام إلى انشقاق وانقسام في النخبة أو نتيجة لتعرض النظام لأزمة حادة كالحروب أو الأزمات الاقتصادية مما ينتج عنه فرص بالمطالبة ليس فقط ببعض التعديلات وإنما قد يصل الحد إلى المطالبة بإسقاط النظام ككل. 

- تصنيف الفرص وفق معيار المؤسسية: وتنقسم الفرص إلى مؤسسية وأخرى ثورية، بحيث يشير النمط الأول إلى الفرص الناتجة عن التغيرات في الهيكل المؤسسي الرسمي للدولة، والذي يتيح فرص للحركات وجماعات المعارضة بممارسة المزيد من الضغط من أجل الصعود والوصول إلى السلطة، أو أن تقوم بعقد تحالفات ومساومات مع النخبة الجديدة، بينما يشير النمط الآخر إلى التغيرات في الأبعاد الأخرى غير المؤسسية وبخاصة تلك التي تتعلق بالجانب الأمني، كالذي يتعلق بمؤسسات الجيش أو الشرطة، وتميل الحركات في أغلب الأحيان إلى ممارسة العنف والتمرد، ورفع سقف المطالب والتوقعات.  

- تصنيف الفرص وفق معيار المدة الزمنية: فهناك فرص طويلة الأجل وأخرى قصيرة الأجل، وهما يتعلقان في الأغلب بالأسس العامة للنظام وشرعيته. 

 

نقد مفهوم هيكل الفرص السياسية:

بالرغم من الأهمية التي اكتسبها هيكل الفرص السياسية كاقتراب تحليلي خاصة في ظل تصاعد دور الحركات الاجتماعية، إلا أنه شهد انتقادات عديدة تتعلق بكونه نظرية مرنة وغير ديناميكية، بحيث ذهب روود كوبمانس Ruud Koopmans في كتابه "الحركات الاجتماعية" إلى القول بأن هذا الاقتراب رغم كونه يحمل مسمى "العملية" أو "البنية"، إلا أنه لا يوجد قوانين أو متغيرات واضحة يمكن الاستناد عليها في تفسير عمل الحركات، مما يجعله مفهوم فارغ من أي معنى، لأنه يغفل الطابع الدينامي في الفعل الاحتجاجي، علاوة على صعوبة الوصول إلى هذا التناسق المستقر بين المتغيرات الهيكلية وبين التغير في مواقف الحركة، حتى محاولة كل من ماك آدم وتشارلز تيلي لاقتراح مجموعة من الآليات المتكررة في الحالات التطبيقية، علاوة على النماذج التحليلية وبخاصة اقتراب دراسة الحالة الكلي، إلا أنه يرى في كونهم وضعوا مجموعة كبيرة من الآليات التي لا تخضع لإطار نظري واحد، بحيث تتطلب كل حالة مجموعة خاصة بها، مما يجعل الباحثين يشعرون وكأنهم ليسوا أمام اقتراب حقيقي له قواعده وآلياته المحددة، خاصة في ظل فشل أنصاره لتقديم إجابات واضحة حول التساؤلات الخاصة بكيف تنشأ الحركة؟ وما هو سبب الاختلافات التي توجد بين الجماعات ذات الهيكل الاقتصادي والسياسي المتشابه؟

ويضع كوبمانس عدد من التحديات التي تواجه هيكل الفرص وفي مقدمتها "الأبعاد الثقافية"، والتي لا يوليها الاقتراب الاهتمام الكافي، فالحركات الاجتماعية لا تستند في سلوكها على المؤسسات السياسية فقط، وإنما تسعى إلى توظيف الإمكانات الثقافية والخطاب الاجتماعي والسياسي السائد من أجل تحقيق التعبئة الاجتماعية، والوصول إلى كافة شرائح وطبقات وفئات المجتمع، بما يوسع من قاعدتها الجماهيرية. 

كما أن هذا الاقتراب يفترض مبدأ الرشادة والقدرة على الاختيار العقلاني لدى النشطاء السياسيين، فهم قادرين على إدراك حالات التغير في النظام السياسي، بل واستغلاله في سبيل تحقيق التغيير، إلا أنه في الواقع ليس الأمر بهذه الدرجة من العقلانية وعدم التأكد، إلى جانب ما يتسم به العمل الجماعي في كثير من الأحيان بمشاعر الغضب والرغبة في التغبير دون حساب النتائج والتكاليف. 

وفي السياق ذاته، وجد أنصار النظريات الأخرى وبخاصة نظرية تعبئة الموارد وجود خلل واضح في هذا الاقتراب من حيث ما يعرف بـ"غياب المتغيرات الوسيطة" التي تساعد في تحول الاحباطات ومشاعر الغضب الشعبي إلى مطالب قابلة للتعبئة والتحرك من أجل التأثير، خاصة في ظل اتباع الدولة مجموعة من القواعد والأساليب القمعية لإخماد أي تحركات ممكنة.

 

المساعي النظرية لتفادي الانتقادات وتطوير المفهوم:

ساهمت الانتقادات السابقة في ظهور مجموعة من المحاولات النظرية لتطوير المفهوم وتعديل أسسه المنهجية دون التخلي عن افتراضاته البنيوية الأساسية، وقد اقترح كل من ماك آدم وجون ماكرثي وماير زالد ما يمكن تسميته بـ"النموذج المتعدد" أو "اقتراب ثلاثي الأبعاد"، والذي يقوم على فكرة الدمج بين مفهوم هيكل الفرص السياسية والمفاهيم القديمة السابقة عليه مثل "تعبئة الموارد" و"التأطير"، بما يعمل على إيجاد تفسير منطقي لنشوء الحركات، فالتغيرات الاجتماعية والاقتصادية في البيئة الوطنية يمكن أن تؤدي إلى انفتاح في النظام السياسي وبروز فرص سياسية جديدة، يقد ينجم عنها تقوية للجماعات والمنظمات الأهلية القائمة، مما يفضي إلى زيادة التحرير الإدراكي، ويسمح بإبداع وسائل جديدة للمعارضة والضغط، فتتولد حركات جديدة. 

ومن ثم، استطاع هذا الإدماج أن يساعد في تنظيم دراسة الحركات الاجتماعية وتقسيم ظهورها وعملها إلى مراحل واضحة، علاوة على القدرة على تفسير أسباب التعبئة واندلاع التحرك الجماعي في بعض الحالات في حين لا يتم ذلك في حالات متشابهة، وهو ما يرتبط بتوافر الوعي المشترك تجاه القضية "التأطير". 

 

نماذج تطبيقية لمفهوم هيكل الفرص السياسية:

بالرغم من وجود اختلاف حول الأدبيات النظرية في مدى جدوى هذا المفهوم وقدرته كأداة تحليلية على تفسير الحالات الواقعية، إلا أنه منذ نشأته ظهرت موجة من الدراسات التي تسعى لتطبيقه في فهم وتحليل الحالات الدولية المختلفة، ولعل أشهرها دراسة كل من كريزي هانس بيتر Kriesi Hans Peter ورود كوب مانس  Rudkoop Mans ووليام فينداك William Duy Vendak وماكرو جينجن Macro Gingn وسعيهم إلى تطبيق المفهوم على بعض دول أوروبا الغربية وبخاصة فرنسا وألمانيا وهولندا وسويسرا، وقد انطلقت الدراسة في فرضية مفادها أن الفرصة السياسية تمارس دورًا هامًا في التأثير على نمط التعبئة للحركات الاجتماعية، بل وعلى استراتيجيات العمل المستخدمة وآليات الضغط المتبعة، وقد اتبع المؤلفون في البداية عدد من المفاهيم الخاصة بالاقتراب من قبيل "هياكل التحالفات" و"الهيكل المؤسسي" و"استراتيجيات العمل الجماعي" في مقابل "استراتيجيات النظام وأطر المقاومة" و"الموجات المضادة للحركات الاحتجاجية"، ثم شرعت في دراسة خصائص الحركات الاجتماعية في كل حالة على حده، وكذلك خصائص السياق الوطني المحيط، بما يسهم في التعرف على العلاقة بين كل منهما. وفي السياق نفسه، ذهب لوريس كاروسو Loris Caruso إلى تطبيق المفهوم على دراسة الحركات الاجتماعية في الحالة الإيطالية وقدرتها على التعبئة الاجتماعية والحشد السياسي، وتنطلق الدراسة من فرضية أثر طبيعة النظام السياسية ودرجة انفتاحه على العمل الجماعي، وهو ما تسعى إلى اختباره في السياق الإيطالي وبخاصة خلال فترة الثمانينات، حيث شهدت إيطاليا خلالها عدد من عمليات التغيير التي أثرت في طبيعة الأحزاب السياسية وشكل الدولة، والتي تمثلت في أزمة الحزب الجماهيري، وتدني الثقة الشعبية في الأحزاب مما أدى إلى فشلها في القيام بوظيفة الوساطة بين المواطنين والدولة، الأمر الذي أدى إلى ظهور الحركات الاحتجاجية، مما دفع إلى ضرورة البحث في العلاقة بين الاحتجاج الشعبي والمؤسسية السياسية، وبخاصة حالات الاحتجاج في فيتشنزا ضد بناء القاعدة العسكرية الأمريكية، وقد ركزت الدراسة على تحليل سلوك المتظاهرين ومواقع الاحتجاج وتحليل التقارير الصحفية خلال هذه الفترة، وتتبع تطور العمل الاحتجاجي وديناميات التنافس والصراع، وقد أوضحت الدراسة وجود عوامل تعبئة حاسمة بديلة لما يقدمه هيكل الفرص السياسية، أهمها الشعور الجماعي بالظلم الإجرائي، خاصة في ظل نقص الديمقراطية والنزاهة، وتزايد حدة الاستقطاب المجتمعي، والتي لعبت دورًا أكبر مقابل التغير في النظام السياسي.

وفي دراسة لبول دانيري Paul D'Aneiri عمد إلى بحث أسباب التغير في الدول ما بعد الشيوعية خلال فترة نهاية التسعينيات، خاصة في ظل ما شهدته من حركات احتجاجية ومعارضة شعبية واسعة من أجل التخلص من الأنظمة السياسية السلطوية، والتي عرفت بـ"الثورات الملونة"، وقد تباينت نتائج هذه الثورات من حالة إلى أخرى، وهو ما دفع الباحث إلى دراسة أسباب هذا التباين، والذي فسره في البداية من خلال فرضيته الرئيسية التي ترى في تغير بنية الفرص السياسية؛ ففي بعض الحالات مثل تضامن النخبة الخاصة بالمؤسسات الأمنية إلى المطالب الشعبية وتوفير عنصر الحماية للثورات عاملًا هامًا في تحفيز الحركات الاحتجاجية على استمرارها في الضغط ورفع سقف مطالبها، بل أنه ساهم في دفع المواطنين للالتفاف حولها والتعبير عن غضبهم وسخطهم من الأنظمة السياسية، إلى جانب وجود انشقاق في صف النخبة الحاكمة وتغير هيكل التحالفات، علاوة على حصول الاحتجاجات على الدعم من السياق الدولي وبخاصة المنظمات الدولية، بل وسعيها لتقديم الموارد المالية اللازمة للحشد والاستمرار، وهو ما يفسر –في رأي الكاتب- تغير نتائج الثورات في كل من صربيا التي فشلت في 1996م، بينما استطاعت النجاح في 2000م، وأوكرانيا ما بين عامي 200م و2004م. 

وعلى المستوى العربي، ذهب الباحث عقل محمد أحمد إلى تطبيق المفهوم لتحليل موقف حركة حماس تجاه الممارسة الديمقراطية في فلسطين خلال الفترة الممتدة من 1994 إلى 2012م، خاصة في ظل تغير موقفها من المشاركة في المجالس التشريعية خلال هذه الفترة، وهو ما دفع بالباحث إلى افتراض أن هناك علاقة إيجابية بين تغير الإدراك الحماسي لهيكل الفرص السياسية المتاح وبين اقبال الحركة على المشاركة والممارسة الديمقراطية، حتى اتخذت قرار بخوض انتخابات المجلس التشريعي عام 2006م، ولإثبات ذلك سعت الدراسة إلى بحث التغيرات المستجدة في هيكل الفرص على المستويين الداخلي والخارجي كما يلي: 

- تغير هيكل الفرص السياسية في الداخل الفلسطيني: شهدت الحالة الفلسطينية تغير في ميزان القوى الداخلي عقب توقيع اتفاقية أوسلو، والتي أدت إلى انهيار شعبية حركة فتح مقابل حركة حماس، وهو ما استغلته في زيادة التعبئة والحشد من خلال التركيز على العمل الاجتماعي الخدماتي والكفاحي السياسي، مما سمح لها بالصعود التدريجي وتنامي دورها السياسي، إلى جانب عدد من الأحداث السياسية كانتفاضة الأقصى واستشهاد الرئيس ياسر عرفات وكذلك استشهاد رئيس الحركة أحمد ياسين عام 2004م، مما زاد من وجودها وتأثيرها المجتمعي.

- تغير هيكل الفرص السياسية في المحيط الخارجي: شهدت البيئة المحيطة تغيرات تتعلق بالمستعمر الإسرائيلي، بحيث تغيرت سياسات السلطة الحاكمة عقب صعود حزب الليكود والذي اتخذ سياسات مخالفة لسلفه حزب العمل، بحيث سعى إلى احتواء المنظمات الفلسطينية وبخاصة جماعة الإخوان المسلمين، بما سمح بتطور الحركة الإسلامية في فلسطين، وذلك في مقابل منظمة التحرير التي كانت تشكل تهديدًا للجانب الإسرائيلي، وازداد الأمر عقب انسحاب إسرائيل من قطاع غزة في 2005م، وهو ما استغلته حماس في البرهنة على فشل حركة فتح ومقاومتها. علاوة على صعود التيار الإسلامي في كل من إيران ولبنان مما عزز من هيكل الفرص السياسية لحماس. 

ومع إدراك الحركة للتغير في هيكل الفرص، فإنها عمدت إلى تطويع أيديولوجيتها الإسلامية من أجل زيادة شعبيتها، كما تمكنت من التكيف مع التغيرات السياسية من أجل تحقيق أهدافها. 

 

كما ذهبت الباحثة شيرين إلى اعتماد المفهوم كأداة منهجية لتحليل سلوك جماعة الإخوان المسلمين في مصر خلال مرحلة الحراك الثورين والتي حددتها في الفترة من 2011م إلى 2013م، بحيث تعتبر جماعة الإخوان إحدى القوى السياسية الهامة التي استطاعت أن توظف الفرص السياسية المتاحة خلال فترة الانتفاضة الشعبية في 25 يناير 2011م في زيادة شعبيتها وتوسيع نطاق سلطاتها، حيث تمكنت من حيازة أكر المقاعد في انتخابات مجلس الشعب 2011، 2012م، بل أنها استطاعت أن تصل إلى كرسي الرئاسة بتولي مرشحها محمد مرسي، مما أدى إلى انتقالها من جماعة احتجاج ومعارضة إلى نخبة حاكمة، إلا أنها لم تتمكن من استغلال هذا  التغير في دعم نجاحها والحفاظ على استمراريته، بحيث لم يدم هذا التحول سوى عام واحد، فقد تعرضت نتيجة لسوء الإدارة السياسية وانعدام الخبرة وضعف التحالفات مع القوى المدنية إلى موجة من الاحتجاجات انتهت بانقلاب 30 يونيو 2013م، عادت على إثره إلى موقعها كجماعة معارضة من جديد، وهو ما عبرت عنه الباحثة بمراحل الصعود والهبوط للجماعة، وهو ما دفعها إلى تحليل هذه الظاهرة، وق\ توصلت أنه على الرغم من قدرة مفهوم هيكل الفرص على تفسير سلوك الفاعلين حيال بنية الفرص المحيطة، إلا أن هناك بعض المحددات التي قد تتدخل في التفسير وهي: 

١- الإدراك وسوء الإدراك: ويعني بمدى إدراك الجماعة بالفرص الجديدة وقدرته على استغلال هذه الفرص وتطويعها في الوصول إلى المزيد من السلطة، والأهم هو إدراك طبيعة المرحلة ذاتها وهي "الحراك الثوري" التي تتسم بالسيولة وعدم اليقين، لما تشهده من تغير سريع في نمط التحالفات والعلاقات، أي أن نجاح الحركة في استغلال الفرص لا يعني فقط توافر فرص حقيقية، وإنما في إدراك القيود المفروضة على هذه الفرص، والعمل على تجاوزها، فجماعة الإخوان بالرغم من قدرتها على التكيف مع المرحلة الانتقالية وإدراك الفرص في مرحلة الحراك إلا أنها بالغت في نظرتها للفرص المتاحة في تحقيق المزيد من المكاسب حتى اعتلت السلطة، إلا أنها لم تستطع الحفاظ عليها نتيجة لسوء إدراك قيادات الجماعة ببدء تراجع الفرص وانقلابها، وهو ما يتضح بصورة كبيرة في مبالغة الرئيس محمد مرسي في الوعود الانتخابية التي قطعها على نفسه، مما رفع سقف توقعا المواطنين، علاوة على عدم قدرتها لإدارة التحالفات مع المؤسسات الرسمية والقوى المدنية مما أفضى إلى ظهور خلافات بينها وبخاصة مع السلطة القضائية والأجهزة الأمنية. 

٢- التعامل في الحكم بمنطق المعارضة: فبالرغم من وصول الجماعة إلى سدة الحكم إلا أنها لم تتمكن من تغيير العقلية الحاكمة لقياداتها ومنطق التعامل مع القوى الشعبية المختلفة، بحيث افتقدت إلى توفر الكوادر البشرية القادرة على التعامل مع التكنولوجيا الحديثة والتفاعل مع الجماهير من أجل استمرار الحشد والحصول على الدعم والشرعية وتأييد جميع الفئات، والحفاظ على التأييد الذي جنته في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، كما أنها فلت في احتواء حالة الاستقطاب المجتمعي وبخاصة الناتجة عن القوى المضادة للثورة والتي تسعى إلى إعادة تنظيم النظام السابق وعودته مرة أخرى. 

٣- المغالبة على حساب المشاركة: فالأصل أن القوى السياسية التي تصعد إلى السلطة في مراحل ما بعد التغيير كالثورات، لا تمارس نفس سياسات القمع والاقصاء التي مارسها ضدها النظام السابق، بل تتبع سياسات أكثر ديمقراطية وانفتاحية تجاه باقي القوى السياسية الأخرى، وهو ما تطلق عليه الباحثة "مبدأ المشاركة"، وهو ما نجحت في تفعيله خلال الانتخابات، بحيث وثقت علاقاتها بالقوى الثورية، وشاركت في الائتلاف الوطني لقيادة البلاد خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي، إلا أنها عقب وصولها للسلطة تحولت عن هذا المبدأ ليكون شعارها "المغالبة لا المشاركة"، من خلال سعيها للاحتكار السلطوي، وهو ما دعمته الباحثة بعدد من المؤشرات أهمها: انتهاج العنف من قبل الجماعة، والذي يظهر بصورة واضحة في أحداث الاتحادية، واختراق المؤسسات وبخاصة الاعلامية والأمنية والقضائية، ومحاولة تطبيق سياسة الأخونة، والافتقاد للمرونة في التعامل مع القوى السياسية وبخاصة المعارضة لها أيديولوجيًا، واستمرار سياسة الحشد في موقع السلطة وتكوين مسيرات مؤيدة لحكمها، ومحاولة محاكاة تجارب الأحزاب الإسلامية الصاعدة إلى السلطة وفي مقدمتها تجربة حزب "العدالة والتنمية" في تركيا. 

وقد توصلت الدراسة إلى نتيجة تؤكد على عدم ثبات هيكل الفرص السياسية، وإنما هو متغير من مرحلة إلى أخرى، وبخاصة في المراحل الانتقالية التي تتسم بالسيولة والمرونة، وهو ما يتطلب قدر عالي من الإدراك والوعي لدى الجماعات والحركات، فقد يكون من السهولة تحقق بعض النجاحات والحصول على بعض المطالب خاصة في ظل ضعف النظام الحاكم وتعرضه للانهيار، إلا أنها سرعان ما تواجه المجتمع ككل بمؤسساته ومنظماته السياسية المختلفة، خاصة في حالة إذا ما تمكنت من الحصول على السلطة، وتحول من المعارضة إلى النخبة الحاكمة، الأمر الذي يفرض عليها تغير في الاستراتيجية والأساليب والسياسات ما يجعلها قادرة على الحفاظ على هذه المنجزات. 

 

شهدت العلوم السياسية منذ بداياتها اهتمامًا واضحًا بمسألة استقرار الدولة ونشأتها ودراسة أطوارها وتحولاتها، باعتبار أنه علم يبحث في استقرار المجتمعات وديمومة السلطة واستمرارية الحكم، مما جعلها تتناول مسألة التمرد والخروج على السلطة باعتبارها خرقًا لهذا النظام "الطبيعي"، وقد اختلفت الرؤى النظرية والفلسفية في تبرير الفعل الاحتجاجي وقبوله، ذلك على الرغم من الإقرار بأن الدولة ما هي إلا سلطة مجتمعية، اتفق الأفراد على تكوينها والتنازل لها عن بعض الحقوق مقابل مجموعة من الالتزامات، مما يجعل له الحق في سحب هذه السلطات والمطالبة بالإسقاط في حال إذا ما تخاذلت عن الأدوار والوظائف المنوطة بها. 

وبالرغم مما سعي النظم السياسية المختلفة سواء الديمقراطية أو التسلطية لتوفير مساحة للمشاركة المجتمعية والتعبير عن المطالب في إطار قانوني ومؤسسي، بما يجعلها قادرة على اختراقها وتحديدها وفق أطر معينة تتناسب معها، إلا أن الشعوب استطاعت أن تدرك عدم جدوى هذه الأساليب خاصة في النظم التعسفية، التي تمكن من فرض سيطرتها على كافة القوى والآليات المتاحة بما في ذلك منظمات المجتمع المدني، مما أدى إلى محاولة الجماهير الغاضبة لتنظيم نفسها في أشكال جديدة وابتكار أدوات بعيدة عن سيطرة الدولة من أجل تحقيق التعبئة والحشد، ومن ثم الضغط والمقاومة، ومن هنا ظهور "الحركات الاجتماعية الجديدة"، التي سرعان ما تحولت في ظل الموجة الثالثة للتحول الديمقراطية إلى ظاهرة عالمية، وانتشارها في عدد واسع من البلدان، بل وسعيها لانقلاب على أنظمة الحكم والدعوة إلى إسقاطها، وهو ما دفع بالباحثين إلى ضرورة صياغة مفهوم جديد قادر على الاقتراب من هذه الظاهرة وتفسيرها، خاصة في ظل فشل النظريات السابقة كتعبئة الموارد والتأطير وغيرها، وهو ما تمثل في مفهوم "هيكل الفرص السياسية". 

وقد شرعت الدراسات في تقديم العديد من التعريفات لهذا المفهوم، إلا أنه يمكن تعريفه إجمالًا بأنه "مجموعة التغيرات التي تطرأ على البيئة السياسية المحيطة في بعديها الداخلي والمتمثل في النظام السياسي والخارجي، بما يدفع الفاعلين السياسيين إلى استغلالها في الحشد السياسي وتعبئة الموارد من أجل الضغط على النظام والدفع به في سبيل تحقيق مطالبهم"، وقد عرضت الورقة مجموعة من العناصر المكونة لهذا المفهوم، علاوة على أنواع الفرص السياسية المختلفة وفق عدد من المعايير. 

تحول مفهوم "هيكل الفرص السياسية" إلى أداة تحليلية في العديد من الدراسات، وذلك لقدرته على تفسير أسباب ظهور الحركات الاحتجاجية والتمرد في لحظات تاريخية معينة دون غيرها، إلا أنه مع ذلك شهد العديد من الانتقادات أبرزها مرونة المفهوم، وغياب الإشارة إلى المتغيرات الوسيطة، وهو ما دفع إلى ظهور بعض المساعي إلى تطويره، وهو ما يؤكد على كونه لازال في طور التبلور، بل أنه يحتاج المزيد من الدراسات النظرية.  

 

 

 

المصادر والمراجع:

تيد روبرت غير، لماذا يتمرد البشر؟ ترجمة: مركز الخليج للأبحاث، دبي، مركز الخليج للأبحاث، 2004.

جوستاف لوبون، روح الثورات والثورة الفرنسية، المملكة المتحدة، مؤسسة هنداوي للنشر، 2012. 

زياد عقل، الخضوع والعصيان: الحركات السياسية في سنوات التحول، القاهرة، دار المرايا للإنتاج الثقافي، 2018.

سيجموند فرويد، الطوطم والتابو، الطبعة الأولى، سوريا، دار الحوار للنشر والتوزيع، 1913. 

سيسيل بيشو، أوليفيه فيليول، وليليان ماتيو، قاموس الحركات الاجتماعية، ترجمة: عمر الشافعي، القاهرة، دار صفصافة للنشر، 2017. 

تشارلز تيلي، الحركات الاجتماعية 1768- 2004، ترجمة: ربيع وهبه، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2005.

شرين محمد فهمي، "التغير في هيكل الفرص السياسية في مراحل الحراك الثوري: دراسة حالة جماعة الإخوان المسلمين في مصر 2011-2013"، أطروحة دكتوراة، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2018.

عقل محمد أحمد إبراهيم، "تأثير تغير هيكل الفرص السياسية في موقف حركة حماس تجاه الممارسة الديمقراطية في فلسطين: 1994-2012"، أطروحة دكتوراة، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2015. 

مانكور أولسون، السلطة والرخاء: تجاوز الديكتاتوريات الشيوعية والرأسمالية، ترجمة: ربيع وهبه، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2011.

محمد ضريف، "لماذا وكيف يتمرد البشر؟"، الحوار المتمدن، العدد 3899، 2/11/2012، تم الاطلاع عليه في: 22/12/2022. 

 ناهد عز الدين، "مفهوم هيكل الفرص السياسية: صلاحية الاستخدام كأداة تحليلية في دراسة العمل الجماعي"، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، مجلة النهضة، المجلد 5، العدد 1، يناير 2005. 

نوف عبد اللطيف الحزامي، "مواقع التواصل الاجتماعي والعقل الجمعي: دراسة استقرائية"، مجلة الزرقاء للبحوث والدراسات الإنسانية، المجلد 22، العدد 3، 2022. 

ياسمين رمضان مصطفى، "هيكل الفرص السياسية والتكيف الحزبي: دراسة حالة حزب العدالة والتنمية في تركيا خلال الفترة 2002-2007"، رسالة ماجستير، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2013.

David S. Meyer, and Debra C. Minkoff, "Conceptualizing Political Opportunity", Social Forces, Vol. 82, No. 4, June 2004. 

Della Porta, Donatella, Social Movements and The State: Thoughts on The Policing Of Protest, in: Mc Adam, Mc Carthy, and Zald (eds), Comparative Perspectives on Social Movements: Political Opportunities, Mobilizing Structures and cultural Framing, Cambridge, Cambridge University Press, 1996. 

Hanspeter Kriesi, "Political Context and Opportunity", in: David A. Snow, Sarah A. Soule and Hanspeter Kriesi (eds), The Blackwell Companion to Social Movements, United Kingdom, Blackwell Publishing, 2004. 

Herbert P. Kitshelt, Political Opportunity Structures  and Political Protest: anti-nuclear movements in four democracies, British Journal of Political Science, Vol. 16, No. 1, January 1986.

Joel S. Megdal, "State in Society: Studying How States and Societies Transform and Constitute One Another", New York, Cambridge University Press, 2001.

Kriesi Hans Peter, Rud Koop Mans, William Duy Vandak, and Marco Gingn, "New Social Movements and Political Opportunities in Western Europe", European Journal of Political Research, Vol. 22, 1992. 

Loris Caruso, "Theories of the Political Process, Political Opportunities Structure and Local Mobilizations: The Case of Italy", Sociologica, Vol. 3, 2015. 

Mancur Olson, The Logic of Collective Action: Public Goods and the Theory of Groups, London, Harvard University Press, 1965. 

Paul D'Anieri, "Explaining the Success and Failure of Post- Communist Revolution", Science Direct, No. 39, 2006. 

Paul Kingston, "The Ebbing and Flowing of Political Opportunity Structures: Revolution, Counterrevolution, and the Arab Uprisings", in: M. Arace, and R. Rice (eds), Protest and Democracy, Calgary, University of Calgary Press, 2019, P. 121. 

Peter K. Eisinger, "The Conditions of Protest Behavior in American Cities", American Political Science Review, Vol 67, 1973.  

Rucht Dieter, The Ipact of National Contexts on Social Movements Structures: Across Movement and cross sectional comparison, in: Doug Mc Adam, John D. Mc Carthy and Mayer N. Zald, Op. cit.  

Ruud Koopmans, ”Social movements”, In: Russell J.Dalton and Hans-Dieter Klingemann (eds), The Oxford Handbook of Political Behavior, New York, Oxford University Press, 2009.

Sydney G. Tarrow, Power in Movement: social movements and contentious politics, London, Cambridge University Press, 1994.  

 

إقرأ أيضاً

شارك أصدقائك المقال

ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ

ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.

اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.


كافة حقوق النشر محفوظة لدى الموسوعة السياسية. 2024 .Copyright © Political Encyclopedia